فصل: الحكم الثالث: ما المراد بالملامسة في الآية الكريمة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الثاني: ما هي الأسباب المبيحة للتيمم؟

ذكرت الآية الكريمة أسباب التيمم وهي أربعة (المرض، السفر، المجيء من الغائط، ملامسة النساء) فالسفر يبيح التيمم عند عدم الماء، والمرض أيًا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط عند عدم الماء، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} فهذا القيد راجع إلى الكل، فالغالب في المسافر ألا يجد الماء، والمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم لأنه مع وجود الماء قد لا يستطيع الاستعمال فيكون كالفاقد للماء، فهو كمن يجد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكمًا، ويدل عليه ما ورد في السنة المطهرة من حديث جابر رضي الله عنه قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منّا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال».
ويدل عليه أيضًا ما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا».
قال ابن تيمية: في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة.
بقي أنه ما الفائدة إذًا من ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح، كلهم على السوء لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
أجاب المفسّرون عن ذلك بأن المسافر لمّا كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء، وأما المريض فاللفظ يشعر بأن المرض له دخل في السببية والله أعلم.

.الحكم الثالث: ما المراد بالملامسة في الآية الكريمة؟

اختلف السلف رضوان الله عليهم في المراد من الملامسة في قوله تعالى: {أَوْ لامستم النساء} فذهب علي، وابن عباس، والحسن إلى أن المراد به الجماع، وهو مذهب الحنفية. وذهب ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي إلى أن المراد به اللمس باليد، وهو مذهب الشافعية.
قال ابن جرير الطبري: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أَوْ لامستم النساء} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم روى عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلي»، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: قلتُ: من هي إلاّ أنت؟ فضحكت».
وقد اختلف الفقهاء في مسّ المرأة هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال.
أ- فذهب أبو حنيفة إلى أن مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواءً كان بشهوة أم بغير شهوة.
ب- وذهب الشافعي إلى أن مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوة أم بغير شهوة.
ج- وذهب مالك إلى أن المسّ إن كان بشهوة انتقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض.
دليل الحنفية:
استدل أبو حنيفة بأن المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبّل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ. واستدل أيضًا بما روي عن عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول: أعوذ برضاك من سخطك.
وأما الآية فهي كناية عن الجماع كما نقل عن ابن عباس، واللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلاّ أنه قد عهد في القرآن استعماله بطريق الكناية مثل قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3].
دليل الشافعية:
واستدل الشافعي بظاهر الآية الكريمة فقال: إن اللمس حقيقة في المس باليد، وفي الجماع مجاز أو كناية، والأصل حمل الكلام على حقيقته، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وقد ترجح ذلك بالقراءة الثانية {أو لمستم النساء} فكان حمله على ما قلنا أولى.
قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد: وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو بالليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة هو الجماع في قوله: {أَوْ لامستم النساء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد، وينطلق مجازًا على الجماع، وإذا تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز.
وقال الآخرون: إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة.
ثم قال: والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين إلاّ أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازًا لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس.
الترجيح: ولعل هذا الرأي يكون أرجح، لأنّ به يمكن التوفيق بين الآية الكريمة والآثار السابقة، ولأنه قد تعورف عند إضافة المس إلى النساء معنى الجماع، حتى كاد يكون ظاهرًا فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع والله أعلم.

.الحكم الرابع: ما المراد بالصعيد الطيب في الآية الكريمة؟

اختلف أهل اللغة في معنى الصعيد فقال بعضهم: إنه التراب، وقال بعضهم: إنه وجد الأرض ترابًا كان أو غيره، وقال آخرون: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس. وبناءً على هذا الاختلاف اللغوي اختلف الفقهاء فيما يصح به التيمم.
أ- فقال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالتراب وبالحجر وبكل شيء من الأرض ولو لم يكن عليه تراب.
ب- قال الشافعي: بل لابد من التراب الذي يلتصق بيده، فإذا لم يوجد التراب لم يصح التيمم.
حجة أبي حنيفة: احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد ما تصاعد من الأرض فقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} أي اقصدوا أرضًا طاهرة، فوجب أن يكون هذا القدر كافيًا، واشترط تلميذه (أبو يوسف) أن يكون المتيمَم به ترابًا أو رملًا.
حجة الشافعي: واحتج الشافعي من جهتين: الأول أن الله تعالى أوجب كون الصعيد طيبًا، والأرض الطيبة هي التي تُنبت، بدليل قوله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة.
والثاني: أن الآية مطلقة هنا، ومقيدة في سورة المائدة بكلمة (منه) في قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} [المائدة: 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فوجب ألا يصح التيمم إلا بالتراب.
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لاسيما وقد خصصه النبي عليه السلام به في قوله: «التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء».

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- تحريم الصلاة على السكران حال السكر حتى يصحو ويعود إليه رشده.
2- تحريم الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد على الجنب حتى يغتسل.
3- المريض والمسافر والمحدث حدثًا أصغر أو أكبر يجوز لهم التيمم إذا فقدوا الماء.
4- التراب طهور المسلم عند فقد الماء ولو دام ذلك سنين عديدة.
5- التيمم يكون بمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بالتراب الطاهر. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قيل فكيف يجوز نهي السكران؟
ففيه جوابان:
أحدهما: أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج إلى حد لا يحتمل معه الأمر.
والثاني: أنه نهي عن التعرض للسكر وعليه صلاة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال صاحب ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا} وفى سورة المائدة {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} للسائل أن يسأل عن زيادة {منه} في آية المائدة وعن الواقع فيما أعقبت به كل آية منهما وعن الواقع من الطول فيما أعقبت به آية المائدة فهذه ثلاث سؤالات.
والجواب عن الأول منها: أن زيادة {منه} في آية المائدة زيادة بيان ألا ترى أن قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم}. لا يحصل منه ما يحصل من زيادة {منه} فزيدت بيانا واختصت بذلك آية المائدة لتأخرها في الترتيب الثابت عليه المصحف والبيان يتأخر عما هو بيان له فجاء على ما يجب.
والجواب عن السؤال الثاني:
وهو وجه التناسب بين الآى وما أعقبت به وهو أن آية النساء نزلت قبل تحريم الخمر وقد ذكر المفسرون وغيرهم السبب في نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} وأنها نزلت قبل التحريم كما تقدم وكان شاربها قبل أن تحرم ربما عرض له بسببها التأخير لصلاته كما أشارت إليه الآية وفى تأخيرها عن أول وقتها نقص للفضل الموجود في أدائها أول وقتها فلما كان ذلك مظنة لنقص والوقوع في أدائها في آخر وقتها أو بعد وقتها ربما كان الإثم، والآية قد أعقبت بآية التيمم ناسب ما تقدم التعقيب بقوله: {إن الله كان عفوا غفورا} إذ العفو والمغفرة مرجوان في نحو ما تقدم.
وأما آية المائدة فإنه لما تقدم قبلها حلية طعام أهل الكتاب وجواز نكاح نسائهم على الحاصل من قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وحال بنى إسرائيل من تحريم الشحوم عليهم وغير ذلك مما شدد عليهم فيه مما هو أمر مرفوع عنا ناسب ذلك تعقيب آية المائدة بقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فجاء كل على ما يناسب.
والجواب عن السؤال الثالث:
أن آية النساء غير مقصود بها ما قصد بآية المائدة من الإطناب وتأمل ما انطوت عليه كل آية منها من عدد الكلم والحروف من لدن قوله تعالى في النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} إلى قوله: {وأيديكم} وقوله في المائدة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {وأيديكم منه} تجد آية العقود يزيد عدد حروفها على آية المائدة بضعا وثلاثين حرفا فلما أطيل في هذه ناسبها ما أعقبت به وبنى عليها من قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وناسب إيجاز آية النساء ما بنى عليها من قوله: {إن الله كان عفوا غفورا} إيجازا بإيجاز وإطنابا بإطناب.
فإن قيل: إن الإيجاز في الكتاب عمدة ما بنى عليه وهو الجارى في بلاغته وإنما يكون إطناب الكلام لحامل وداع فما الحامل على ذلك في آية المائدة؟
فقلت: الحامل على ذلك فيها تفصيل ما وقع في الآى قبلها مما حلل وحرم من لدن قوله قوله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} إلى تفصيل ما أحل لكم من قوله: {يسألونك ماذا أحل لهم} إلى الآية المتكلم فيها فلما جرى ذلك كله مفصلا مستوفى ناسبه الوارد في الآية وليس في آية النساء من مثل هذا شيء مما حلل أو حرم فجرى حكمه على نسبة ما تقدمها بناء على رعى المناسبة والله أعلم بما أراد. اهـ.